كلمة بليغة لابن القيم في الرسول الكريم :
يسرني أن أسجل هنا ما ذكره الإمام ابن القيم في كتابه "عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين"
حول هذا المعنى الكبير، فأفاض فيه على طريقته، وضرب الأمثلة، وذكر الأدلة، وأشبع القول
بمناسبة احتجاج طائفة بسيرته وسنته عليه الصلاة والسلام على فضل الفقير الصابر، واحتجاج
معارضيهم بهما أيضا على فضل الغني الشاكر.
يقول ابن القيم:
"وما ينبغي أن يعلم أن كل خصلة من خصال الفضل قد أحل الله رسوله صلى الله عليه وسلم
في أعلاها، وخصه بذروه سنامها، فإذا احتجت بحاله فرقة من فرق الأمة التي تعرف تلك الخصال
وتقاسمتها على فضلها على غيرها، أمكن للفرقة الأخرى أن تحتج به على فضلها أيضا.
فإذا احتج به الغزاة والمجاهدون على أنهم أفضل الطوائف، احتج به العلماء على مثل ما احتج به أولئك.
وإذا احتج به الزهاد والمتخلفون عن الدنيا على فضلهم، احتج به الداخلون في الدنيا والولاية، وسياسة
الرعية، لإقامة دين الله، وتنفيذ أمره.
وإذا احتج به الفقير الصابر، احتج به الغني الشاكر.
وإذا احتج به أهل العبادة على فضل نوافل العبادة وترجيحها، احتج به العارفون على فضل المعرفة.
وإذا احتج به أرباب التواضع والحلم، احتج به أرباب العز والقهر للمبطلين والغلظة عليه والبطش بهم.
وإذا احتج به أرباب الوقار والهيبة والرزانة، احتج به أرباب الخلق الحسن والمزاح المباح الذي لا يخرج
عن الحق، وحسن العشرة للأهل والأصحاب.
وإذا احتج به أصحاب الصدع بالحق والقول به في المشهد والمغيب، احتج به أصحاب المداراة والحياء والكرم
أن يبادروا الرجل بما يكرهه في وجهه.
وإذا احتج به المتورعون على الورع المحمود، احتج به الميسرون المسهلون الذين لا يخرجون عن سعة
شريعته ويسرها وسهولتها.
وإذا احتج به من صرف عنايته إلى إصلاح دينه وقلبه، احتج به من راعى إصلاح بدنه ومعيشته ودنياه،
فإنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعث لصلاح الدنيا والدين.
وإذا احتج به من لم يعلق قلبه بالأسباب ولا ركن إليها، احتج به من قام بالأسباب ووضعها مواضعها وأعطاها حقها.
وإذا احتج به من جاع وصبر على الجوع، احتج به من شبع وشكر ربه على الشبع.
وإذا احتج به من أخذ بالعفو والصفح والاحتمال، احتج به من انتقم في مواضع الانتقام.
وإذا احتج به من أعطى لله ووالي الله، احتج به من منع لله وعادى لله.
وإذا احتج به من لم يدخر شيئا لغد، احتج به من يدخر لأهله قوت سنة.
وإذا احتج به من يأكل الخشن من القوت والأدم كخبز الشعير والخل، احتج به من يأكل اللذيذ الطيب
كالشوي والحلوى والفاكهة والبطيخ ونحوه.
وإذا احتج به من سرد الصوم، احتج به من سرد الفطر، فكان يصوم حتى يقال لا يفطر، ويفطر حتى يقال لا يصوم.
وإذا احتج به من رغب عن الطيبات والمشتهيات، احتج به من أحب أطيب ما في الدنيا، وهو النساء والطيب.
وإذا احتج به من ألان جانبه وخفض جناحه لنسائه، احتج به من أدبهن وآلمهن وطلق وهجر وخيرهن.
وإذا احتج به من ترك مباشرة أسباب المعيشة بنفسه، احتج به من باشرها بنفسه فآجر واستأجر، وباع
واشترى، واستسلف وأدان ورهن.
وإذا احتج به من يجتنب النساء بالكلية في الحيض والصيام، احتج به من يباشر امرأته وهي حائض بغير
الوطء، ومن يقبل امرأته وهو صائم.
وإذا احتج به من رحم أهل المعاصي بالقدر، احتج به من أقام عليهم حدود الله فقطع السارق ورجم
الزاني وجلد الشارب.
وإذا احتج به من أرباب الحكم بالظاهر، احتج به من أرباب السياسة العادلة المبنية على القرائن
الظاهرة، فإنه حبس في تهمة وعاقب في تهمة".
إلى أن قال: "والمقصود بهذا الفصل: أنه ليس الفقراء والصابرون، بأحق به ـ صلى الله عليه وسلم
ـ من الأغنياء الشاكرين، وأحق الناس به أعلمهم بسنته، وأتبعهم لها".